فصل: تفسير الآيات رقم (38- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والارض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما‏}‏

قرأ الجمهور ‏{‏أوَلم‏}‏ بواو بعد الهمزة وهي واو العطف، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏ألم يَر‏}‏ بدون واو عطف‏.‏ قال أبو شامة‏:‏ ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة‏.‏ قلت‏:‏ معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزمَ قراء مكة رِواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير، وأهملت غير قراءته‏.‏

والاستفهام على كِلتا القراءتين إنكاري، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر‏.‏

والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية‏.‏ والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله‏.‏

والرَّتق‏:‏ الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء‏.‏

والفَتق‏:‏ ضده، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء‏.‏

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة‏.‏

ثم إن قوله تعالى كانتا‏}‏ يحتمل أن تكونا معاً رتقاً واحداً بأن تكون السماوات والأرض جسماً ملتئماً متصلاً‏.‏ ويحتمل أن تكون كل سماء رتقاً على حدتها، والأرض رتقاً على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى ‏{‏ففتقناهما‏}‏‏.‏

وإنما لم يقل نحو‏:‏ فصارتا فتقاً، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي‏.‏

والرتق يحتمل أن يراد به معاننٍ تنشأ على محتملاتها معاننٍ في الفتق، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتقُ المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض، والفتقُ هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلاً من السماء ويرى البرْق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالةٍ على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأحيينا به الأرض بعد موتها‏}‏ في سورة فاطر ‏(‏9‏)‏‏.‏

وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية، وكان الاستفهام أيضاً إنكارياً متوجهاً إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات‏.‏ واحتمل أن يراد بالرتق معاننٍ غيرُ مشاهدةٍ ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما، أي الاتصال والانفصال‏.‏

ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة، أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً، أي كانتا كُتلة واحدة ثم انفصلتْ السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء‏}‏ في سورة هود ‏(‏7‏)‏‏.‏

ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع، أي كانت السماوات رتقاً في حد ذاتها وكانت الأرض رتقاً في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏ في سورة فصّلت ‏(‏912‏)‏‏.‏

وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريرياً عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوباً بالإنكار على ذلك‏.‏

وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضاً الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 99‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد‏.‏ وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نوراً أضاء الموجودات‏.‏

ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيراً أو عَمَاء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ كان في عماء ‏"‏ فكانت جنساً عالياً متحداً ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد‏.‏ ثم خلق الله من ذلك الجنس أبْعاضاً وجعل لكل بَعض مميزات ذاتيةً فصيّر كل متميز بحقيقة جنساً فصارتْ أجناساً‏.‏ ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعاً‏.‏ وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق، وبعض من الصوفية وهو صاحب «مرآة العارفين» جعل الرتق عَلَماً على العنصر الأعظم يعني الجسمَ الكل، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش‏.‏ ذكر ذلك الحكيمُ الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب «مَعارج النور في أسماء الله الحسنى» المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185ه في مقدمات كتابه «معارج النور» وفي رسالة له سماها «رسالة الفتق والرتق»‏.‏

والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَئ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله‏.‏ وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات‏.‏ وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة، ولذلك كان استمرار الحمى مفضياً إلى الهزال ثم إلى الموت‏.‏

و ‏{‏جَعَل‏}‏ هنا بمعنى خَلق، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال‏.‏

و من الماء‏}‏ متعلق ب ‏{‏جعلنا‏.‏‏}‏ و‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية‏.‏ وفرع عليه ‏{‏أفلا يؤمنون‏}‏ إنكاراً عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذْ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين، وجعل فيها الطّرق، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال‏.‏

والرواسي‏:‏ الجبال، لأنها رست في الأرض، أي رسخت فيها‏.‏

والميْد‏:‏ الاضطراب‏.‏ وقد تقدم في أول سورة النحل‏.‏

وتقدم في أول سورة النحل أن معنى ‏{‏أن تَميد‏}‏ أن لا تميد، أو لكراهة أن تميد‏.‏ والمعنى‏:‏ وجعلنا في الأرض فجاجاً‏.‏ ولما كان ‏{‏فجاجاً‏}‏ معناه واسعة كان في المعنى وصفاً للسبيل، فلما قُدم على موصوفه انتصب على الحال‏.‏ والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقاً واسعة ولو شاء لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأودية‏.‏

والفجاج‏:‏ جمع فَجّ‏.‏ والفج‏:‏ الطريق الواسع‏.‏

والسُبُل‏:‏ جمع سبيل، وهو‏:‏ الطريق مطلقاً‏.‏

وجملة ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ مستأنفة إنشاء رجاءِ اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة‏.‏ ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير، أي جعلنا سبلاً واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله‏.‏

فقوله تعالى ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ من الكلام الموجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس‏.‏ فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تميد بهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلهم يهتدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وأمّا حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم عن آياتها معرضون‏}‏‏.‏ فأُدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به‏.‏

والسقف، حقيقته‏:‏ غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة‏.‏ وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السموات‏}‏ بغير عمد ترونها وقد تقدم في أول سورة الرعد ‏(‏2‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏وهم عن آياتها معرضون‏}‏ في موضع الحال‏.‏ وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات‏.‏ وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأيْن لإفادة القصر، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء، لأنهم لما عبدوا الأصنام، والعبادة شكر، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية‏.‏

ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار، ونفس الشمس والقمر، لا في إيجادها على حالة خاصة، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل‏.‏

وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تُفيض النور على الموجودات، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض‏.‏

وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجُّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلْق النهار تبع لخلق الشمس وخلققِ الأرض ومقابلةِ الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم‏.‏

وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة‏.‏ وكل ذلك من المنن‏.‏ ‏{‏كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكراً مجملاً في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلاً في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقامُ مثيراً في نفوس السامعين سؤالاً عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير فيه لا يلاقي فضاء سير غيره‏.‏

وضمير ‏{‏يسبحون‏}‏ عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر‏.‏ وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القَمر والكوكب‏.‏

وقال في «الكشاف»‏:‏ «إنه روعي فيه وصفُها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضاً ضمير العقلاء، يعني فيكون ذلك ترشيحاً للاستعارة»‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏في فلك‏}‏ ظرف مستقر خبر عن ‏{‏كلّ‏}‏، و‏{‏كل‏}‏ مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل تلك، فهو معرِفة تقديراً‏.‏ وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلاً من المذكورات مستقر في فلَك لا يصادم فلَك غيره، وقد علم من لفظ ‏(‏كل‏)‏ ومن ظرفية ‏(‏في‏)‏ أن لفظ ‏{‏فلك‏}‏ عام، أي لكل منها فلكُه فهي أفلاك كثيرة‏.‏

وجملة ‏{‏يسْبحون‏}‏ في موضع الحال‏.‏

والسبح‏:‏ مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم‏.‏

والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب‏.‏ ويغلِب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر‏.‏

والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد‏.‏ والأصل الأصيل في ذلك كله فَلْكة المَغْزِل بفتح الفاء وسكون اللام وهي خشبة مستديرة في أعلاها مِسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغَزْل‏.‏

ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل في فلك‏}‏ فيه محسّن بديعي فإن حروفه تُقرأ من آخرها على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربك فكبِّر‏}‏ ‏[‏المدّثر‏:‏ 3‏]‏ بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سمّاه السكاكي «المقلوبَ المستوي» وجعله من أصناف نوع سمّاه القَلب‏.‏

وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته‏.‏ وسمّاه الحريري في «المقامات» «ما لا يستحيل بالانعكاس» وبنَى عليه المقامة السادسة عشَرة ووضح أمثلة نثراً ونظماً، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً‏.‏

قال العلامة الشيرازي في «شرح المفتاح»‏:‏ وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال‏.‏ قلت‏:‏ ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن‏.‏

ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زارَ العمادَ الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد‏:‏ «سِرْ فلا كبَا بك الفرس» ففطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة‏:‏ «دَام عُلا العماد» وفيه محسن القلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

عُنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم ‏{‏أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يُدبرونه قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏ في سورة الطور ‏(‏30‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك في‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريبَ المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم، أو كأنهم لا يموتون أبداً فلا يشمت بهم أحد، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون‏.‏

وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام‏.‏

ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد‏}‏ طريقةُ القول بالموجَب، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجَب، أي ما هم بخالدين حتى يُوقنوا أنهم يرون موتك‏.‏ وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذارٌ لهم بأنهم لا يرى موتَه منهم أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين‏.‏

ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها، وهي ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏‏.‏ ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين‏.‏

واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن‏.‏

وذوقُ الموت ذوق آلاممِ مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد‏.‏

والمراد بالنفس النفوس الحالّة في الأجساد كالإنسان والحيوان‏.‏ ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيّداً بوصف المجرداتتِ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة‏.‏ وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة‏:‏ إما لفظية كما في قوله تعالى ‏{‏تَعْلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏116‏)‏‏.‏ وإما تقديرية كما في قوله تعالى ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ في آل عمران ‏(‏28‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشرّ جميع الأحياء، فعلّم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلد‏.‏ وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى‏:‏ «ليرجعَنّ رسولُ الله فيُقطِّع أيدي قوم وأرجلَهم» حتى حضر أبو بكر رضي الله عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبّله وقال‏:‏ «طبت حياً وميتاً والله لا يجمع الله عليك موتتين»‏.‏ وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد‏:‏

رأيت المنايا لمَ يدَعْنَ مُحمداً *** ولا باقياً إلاّ لَه الموتُ مرصدا

وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشرّ وأن الدنيا دار ابتلاء‏.‏

والبلوى‏:‏ الاختبار‏.‏ وتقدم غير مرة‏.‏ وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة، إطلاقٌ مجازي، لأن ابتناء النظام عليه دَل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه‏.‏ أشبَه اختبارَ المختبِر ليعلم أحوال من يختبرهم‏.‏

و ‏{‏فتنةً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة توكيداً لفعل ‏{‏نبْلوكم‏}‏ لأن الفتنة ترادف البَلْوَى‏.‏

وجملة ‏{‏وإلينا تُرجعون‏}‏ إثبات للبعث، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر‏.‏

وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر‏.‏ وأمّا احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبه، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏‏.‏

والهُزُؤُ بضم الهاء وضم الزاي مصدر هَزَأ به، إذا جعله للعبث والتفكه‏.‏ ومعنى اتِّخاذه هُزْؤاً أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق‏.‏ وتقدم في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 106‏]‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا آياتي ورسلي هزؤاً‏}‏ وجملة ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ فهي في معنى قول محذوف دل عليه ‏{‏إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ لأن الاستهزاء يكون بالكلام‏.‏ وقد انحصر اتخاذُهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه‏.‏

والاستفهام مستعمل في التعجيب، واسم الإشارة مستعمل في التحقير، بقرينة الاستهزاء‏.‏

ومعنى ‏{‏يذكر آلهتكم‏}‏ يذكرهم بسوء، بقرينة المقام، لأنهم يعلمون ما يذكر به آلهتهم مما يسوءهم، فإن الذكر يكون بخير وبشرَ فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا وكما في قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏قالوا سمعنا فتى يذكرهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب، ولذلك أعْقبه الله بجملة الحال وهي ‏{‏وهم بذكر الرحمن هم كافرون‏}‏، أي يغضَبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكُنْهِها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمان الذي هو الحقيق بأن يذكروه‏.‏ فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام‏.‏ والأظهر أن المراد بذكر الرحمان هنا القرآن، أي الذكر الوارد من الرحمان‏.‏ والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر‏.‏ ومعنى كفرهم بذكر الرحمان إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأيضاً كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث‏.‏

وعبر عن الله تعالى باسم ‏{‏الرحمان‏}‏ تَورُّكاً عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمان اسماً لله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا‏}‏ في سورة ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وضمير الفصل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم كافرون‏}‏ يجوز أن يفيد الحصر، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أنّ هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر‏.‏

ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقاً لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏خُلِق الإنسان من عَجَل‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ وبين جملة ‏{‏سأُريكم آياتي‏}‏، جعلت مقدمة لجملة ‏{‏سَأُريكم آياتي‏}‏‏.‏ أمّا جملة ‏{‏سَأُريكم آياتي‏}‏ فهي معترضة بين جملة ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ وبين جملة ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏، لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأريكم آياتي فلا تستعجلون‏}‏ استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها‏.‏ فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين‏.‏

ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين‏.‏ وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام‏.‏ والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية‏.‏

والعَجَل‏:‏ السرعة‏.‏ وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية‏.‏ شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية‏.‏ فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة‏.‏ ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان عَجولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان خلق هلوعاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه‏.‏ وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد‏.‏

وجملة ‏{‏سأُريكم آياتي‏}‏ هي المقصود من الاعتراض‏.‏ وهي مستأنفة‏.‏

والمعنى‏:‏ وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين‏.‏

وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب‏.‏ فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد‏.‏

وحذفت ياء المتكلم من كلمة ‏{‏تستعجلونِ‏}‏ تخفيفاً مع بقاء حركتها فإذا وُقف عليه حذفت الحركة من النوننِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذِكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكماً، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏سأريكم آياتي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وهذا معبّر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وعناداً‏.‏

وذكر مقالتهم هذه هنا مناسب لاستبطاء المسلمين النصرْ‏.‏ وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ فيجوز أن تكون معطوفة عليها‏.‏

وخاطبوا بضمير الجماعة النبيءَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين‏.‏

واستفهامُهم استعملوه في التهكم مجازاً مرسلاً بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين كانوا موقنين بعدم حصول الوعد‏.‏

والمراد بالوعد ما تَوعدهم به القرآن من نصرِ رسوله واستئصال معانديه‏.‏ وإلى هذه الآية ونظيرها ينظرُ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين وقف على القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم ‏{‏قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ أي ما وعدنا ربنا من النصر وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار‏.‏

وجملة ‏{‏لو يعلم الذين كفروا‏}‏ مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏ ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم‏.‏ وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره‏.‏

وجواب ‏(‏لو‏)‏ محذوف، تقديره‏:‏ لمَا كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم، ونحو ذلك مما يحتمله المقام‏.‏ وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هُزؤاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وحذْف جواب ‏(‏لو‏)‏ كثير في القرآن‏.‏ ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب‏.‏

و ‏(‏حينَ‏)‏ هنا‏:‏ اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية، فهو من أسماء الزمان المتصرفة، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عَدوا تأخيره دليلاً على تكذيبه‏.‏ 6

وجملة ‏{‏لا يكفون‏}‏ مضاف إليها ‏(‏حينَ‏)‏‏.‏ وضمير ‏{‏يكفون‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب‏.‏ ومعنى الكف على هذا الوجه‏:‏ الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين‏.‏ وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لَقُوه يوم بدر‏.‏

وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس‏:‏

نُعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وجوهاً لا تعرض لللطام

ولأن الأدبار يأنف الناسُ من ضربها لأن ضربها إهانة وهزي، ويسمى الكسع‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون ضمير ‏{‏يكُفُّون‏}‏ عائداً إلى الذين كفروا، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم‏.‏ أي حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً‏.‏ وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم‏.‏

وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين‏.‏ والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ولقوله تعالى ‏{‏سأريكم آياتي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏ كما تقدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ عطف على ‏{‏لا يكفون‏}‏ أي لا يكف عنهم نفح النار، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصراً ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب‏.‏ وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصاً منها ولا يجدون نصيراً من أحلافهم‏.‏

و ‏(‏بل‏)‏ للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيُّؤ له والتوطن عليه، كما قال كُثَيّر‏:‏

فقلت لها يا عز كل مصيبة *** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت

وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وفاعل ‏{‏تأتيهم‏}‏ ضمير عائد إلى الوعد‏.‏ وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حين لا يكفون عن وجوههم النار‏}‏ باعتبار الوقعة أو نحو ذلك، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة‏.‏ وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة‏.‏

والبغتة‏:‏ المفاجأة، وهي حدوث شيء غير مترقب‏.‏

والبَهت‏:‏ الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة، يقال‏:‏ بَهتَهَ فبُهِتَ‏.‏ قال تعالى في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ ‏{‏فبهت الذي كفر أي غُلب‏.‏ وهو معنى التفريع في قوله تعالى‏:‏ فلا يستطيعون ردها‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ أي لا تؤخر عنهم‏.‏ وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أُنظِروا زمناً طويلاً لعلهم يقلعون عن ضلالهم‏.‏

وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ في ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ولا شك في أن المستهزئين مثلَ أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف، كانوا ممن بَغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك‏.‏

وأما إذا أريد بضمير ‏{‏تأتيهم‏}‏ الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة‏.‏ وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏سأريكم آياتي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏ تطمين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتسلية له‏.‏ ومناسبة عطفها على جملة ‏{‏لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39‏]‏ إلى آخرها ظاهرة‏.‏

وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وءابَاءهم حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ العُمُرُ‏}‏

بعد أن سُلِّيَ الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أُمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قِبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظاً لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم‏.‏

والاستفهام إنكار وتقريع، أي لا يكلؤُهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك، تنبيهاً لهم إذ نسوا نعمه‏.‏

وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل‏:‏ من يكلؤكم في جميع الأوقات‏.‏

وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يُعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام‏.‏

وذكر النهار بعده للاستيعاب‏.‏

ومعنى ‏{‏من الرحمان‏}‏ من بأسه وعذابه‏.‏

وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب‏.‏

فالإضراب الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم عن ذكر ربهم معرضون‏}‏، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يُرجَى منهم الانتفاع بالقوارع، أي أخِّرْ السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم‏.‏

ثم أضرب إضراباً ثانياً ب ‏(‏أم‏)‏ المنقطعة التي هي أخت ‏(‏بل‏)‏ مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال‏:‏ ‏{‏أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا‏}‏، أي بل ألهم آلهة‏.‏ والاستفهام إنكار وتقريع، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا‏.‏ وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء‏.‏

وجملة ‏{‏لا يستطيعون نصر أنفسهم‏}‏ مستأنفة معترضة‏.‏ وضمير ‏{‏يستطيعون‏}‏ عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم‏.‏ والمعنى‏:‏ كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول‏.‏

ثم أضرب إضراباً ثالثاً انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخَذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل متعنا هؤلاء وآباءهم‏}‏، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مَداها حتى طالت أعمار آبائهم‏.‏ وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمدٍ عَلِمَه‏.‏

وقد وُجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يكلؤكم‏}‏، ثم أُعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها‏}‏ الآية في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

و ‏{‏يصحبون‏}‏ إما مضارع صحبهُ إذا خالطه ولازمه، والصحبة تقتضي النصر والتأييد، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعلُ المبنيّ للنائب مراداً به الله تعالى، أي لا يصحبهم الله، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منا‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏يصحبون‏}‏ على معنى ‏(‏مِن‏)‏ الاتصالية، أي صحبة متصلةً بنا بمعنى صحبة متينة‏.‏ وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفاً لقصد العموم، أي لا يصحبهم صاحب، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حِماية الجار فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منا‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏يصحبون‏}‏ على معنى ‏(‏مِن‏)‏ التي بمعنى ‏(‏على‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه، أي من السوء‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش‏.‏

وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش‏.‏

‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون‏}‏

قريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏ تهكماً وتكذيباً‏.‏ فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3941‏]‏ فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته‏.‏

والرؤية علمية، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى، وكفى بذلك دليلاً على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل ‏{‏نأتي‏.‏

فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأرض‏}‏ تعريف العهد، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏ أي أرضَ مصر‏.‏

والنقصان‏:‏ تقليل كمية شيء‏.‏

والأطراف‏:‏ جمع طَرف بفتح الطاء والراء‏.‏ وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته، وضده الوسط‏.‏

والمراد بنقصان الأرض‏:‏ نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين، والقرينة المشاهدة‏.‏

والمراد‏:‏ نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين‏.‏ وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد‏.‏

وجملة ‏{‏أفَهمُ الغالبون‏}‏ مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة‏.‏ والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم‏.‏

واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفهم الغالبون‏}‏ دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجالِهم بالوعد تهكماً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 38‏]‏، من التهديدِ الذي وُجه إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو يعلم الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 39‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يكلؤكم بالليل والنهار‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى طال عليهم العمر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 4244‏]‏، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصْر المسلمين، واقتراب الوعد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 44‏]‏، عُقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته، وهي قصره على الإنذار بما سيحلّ بهم في الدنيا والآخرة إنذاراً من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن، أي فلا تعرضوا عنه، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك، ولا تسألوا عن تعيين آجال حلول الوعيد، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم‏.‏

فالكلام قصر موصوف على صفة، وقصره على المتعلِّق بتلك الصفة تبعاً لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين‏.‏ ولم يظهر لي مِثال له من كلام العرب قبل القرآن‏.‏

وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم وذلك ذيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون‏}‏‏.‏ والواو للعطف على ‏{‏إنما أنذركم بالوحي‏}‏ عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف‏.‏

والتعريف في ‏{‏الصُّم‏}‏ للاستغراق‏.‏ والصمم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيهاً لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص‏.‏

وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإندار لأنه إعراض يُفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة‏.‏

واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً كما قال‏:‏ ‏{‏أدْعُوا إلى الله على بصيرةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ والأظهر أن جملة ‏{‏ولا يسمع الصم الدعاء‏}‏ كلام مُخاطَب به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولا يَسمع بتحتية في أوله ورفععِ الصمُّ‏.‏ وقرأه ابن عامر ولا تُسمِع بالتاء الفوقية المضمومة ونصب الصمّ خطاباً للرسول‏.‏ وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل إنما أنذركم بالوحي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أنذرهم بأنهم سيندمون عندما ينالهم أول العذاب في الآخرة‏.‏ وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة‏.‏

وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء‏.‏

والمسُّ‏:‏ اتصال بظاهر الجسم‏.‏

والنفحة‏:‏ المرة من الرضخ في العطية، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه‏.‏

وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر، وبضميمة بناء المرة فيها، والتنكير، وإسناد المسّ إليها دون فعل آخر أربعُ مبالغات في التقليل، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حلّ به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه‏.‏

والويل تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 79‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ في أول ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏إنا كنا ظالمين‏}‏ إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة ‏{‏ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 46‏]‏ الخ لمناسبة قولهم ‏{‏إنا كنا ظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 46‏]‏، ولبيان أنهم مجازَون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بياناً بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المُجَازَيْن، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏، وفي المجازَى عليه من أجل قوله تعالى ‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله ‏{‏رَبِّك‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 46‏]‏، وتكون نون المتكلم المعظّم التفاتاً لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال‏:‏ أدّى إليه الكيل صاعاً بصاع، ولذلك فرع عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية‏.‏

والوضع حقيقته‏:‏ حط الشيء ونَصْبه في مكان، وهو ضد الرفع‏.‏ ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز‏.‏

والميزان‏:‏ اسم آلة الوزن‏.‏ وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد، وهي تتّحد في كونها ذات طبقين متعادليْن في الثقل يُسميان كِفتين بكسر الكاف وتشديد الفاء تكونان من خشب أو من حديد، وإذا كانتا من صُفر سُميتا صنجتين بصاد مفتوحة ونون ساكنة، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب، في طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود ‏(‏شَاهين‏)‏ وهو موضوع مَمدوداً، وتجعَل بوسطه على السواء عروة لتمسكه مِنها يدُ الوازن، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مَصُوغَة في وسط ‏(‏الشاهين‏)‏ فإذا ارتفع الشاهين تحركتْ تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عُرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله، وتسمى تلك الإبرة لساناً، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كلّ واحد منهما في كِفّة، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان، وإذا أريد معرفة ثِقل شيء في نفسه دون نسبته إلى شيء آخر جعلوا قطعاً من معدن‏:‏ صُفرٍ أو نُحَاس أو حديدٍ أو حَجر ذات مقادير مضبوطةٍ مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرَّطل، فجعلوها تقديراً لثقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض، ووحدتها هو المثقال، ويسمى السَّنْج بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم‏.‏

والقِسْط بكسر القاف وسكون السين اسم المفعول، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزاً‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ في ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا‏:‏ أهو الحقيقةُ أم المجاز، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف، فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزاناً خاصاً به توزن به أعماله، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية‏}‏ في ‏[‏سورة القارعة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحداً فواحداً، وأنه بيد جبريل، وعليه فالجَمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام‏.‏

واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزانَ الدنيا ولكنه على مثاله تقريباً‏.‏ وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملاً في معناه الحقيقي وهو النصْبُ والإرصاد‏.‏

وذهب مجاهد وقتادة والضحّاك وروي عن ابن عباس أيضاً أن الميزان الواقع في القرآن مثَلٌ للعدل في الجزاء كقوله ‏{‏والوزن يومئذ الحق‏}‏ في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 8‏]‏، ومال إليه الطبري‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنّصفَة من غير أن يُظلم أحدٌ» ه‏.‏ أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى ‏{‏وأنزلنا معهم الكتاب والميزان‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والوضع‏:‏ ترشيحٌ ومستعار للظهور‏.‏

وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره‏.‏

وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا‏:‏ الميزان حقيقة، وفريق قالوا‏:‏ هو مجاز‏.‏ وقد ذكر القولين في «الكشاف» فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أيمتهم وصرح به في «تقرير المواقف»‏.‏

وفي «المقاصد»‏:‏ «ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين» ه‏.‏

قلت‏:‏ لعلّه أراد به النسفيّ في «عقائده»‏.‏

قال أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم»‏:‏ «انفرد القرآن بذكر الميزان، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفّتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها‏.‏ ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العبادَ بمقادير أعمالهم‏.‏ ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا‏.‏

وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى‏.‏ فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف، ومن أراد المشي ليجدَنّ سبيلاً مِئْتاء إذ يجد ثلاثة معان ميزاناً ووزناً وموزوناً، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحاً في كلّ لفظةٍ حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقرى فيبطل ما قد أثبت بل يُبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه‏.‏

وقلت‏:‏ كلا القولين مقبول والكلّ متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء‏.‏

وليس بمثل هذه المباحث تعرف قدرة الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تُجحد تصرفاته تعالى‏.‏

ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله ‏{‏القسط‏}‏ في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحاً‏.‏

وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوزن يومئذ الحق‏}‏ في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والقسط‏:‏ العدل، ويقال‏:‏ القسطاس، وهو كلمة معرّبة من اللغة الرومية ‏(‏اللاطينية‏)‏‏.‏ وقد نقل البخاري في آخر «صحيحه» ذلك عن مجاهد‏.‏

فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف، أي ذات القسط، وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلاً من الموازين فيكون تجريداً بعد الترشيح‏.‏ ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله فإنه مصدر صالح لذلك‏.‏

واللام في قوله تعالى ‏{‏ليوم القيامة‏}‏ تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف، أي لأجل يوم القيامة، أي الجزاء في يوم القيامة‏.‏ وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى ‏(‏عند‏)‏ التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال‏:‏ كتبَ لثلاث خلون من شهر كذا، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ أي نضع الموازين عند يوم القيامة‏.‏

وتفريع ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏ على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة‏.‏ والظلم‏:‏ ضد العدل، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل‏.‏ و‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئاً من الظلم‏.‏

ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم، أي شيئاً من الظلم‏.‏

ووقوعه في سياق النفي دلّ على تأكيد العموم من فعل ‏{‏تُظلم الواقع أيضاً في سياق النفي، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك‏.‏

وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها، فنُفِيَ جنس الظلم ونُفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء‏.‏

وجملة ‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل‏}‏ في موضع الحال‏.‏ و‏(‏إنْ‏)‏ وصلية دالة على أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يُتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نُصّ على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى‏.‏ وقد يرد هذا الشرط بحرف ‏(‏لو‏)‏ غالباً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ويرد بحرف ‏(‏إن‏)‏ كما هنا، وقول عمرو بن معد يكرب‏:‏

ليس الجمال بمِئْزَر *** فاعلم وإن رديتَ بُردا

وقد تقدم في سورة آل عمران‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مثقالَ‏}‏ بالنصب على أنه خبر ‏{‏كان‏}‏ وأن اسمها ضمير عائد إلى ‏{‏شيئاً‏.‏‏}‏ وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة‏.‏

وقرأ نافع وأبو جعفر ‏{‏مثقالُ‏}‏ مرفوعاً على أن ‏{‏كان‏}‏ تامّة و‏{‏مثقال‏}‏ فاعل‏.‏

ومعنى القراءتين متّحد المآل، وهو‏:‏ أنه إن كان لنفس مثقال حبّة من خردل من خير أو من شرّ يؤتَ بها في ميزان أعمالها ويجازَ عليها‏.‏

وجملة ‏{‏أتينا بها‏}‏ على القراءة الأولى مستأنفة، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف‏.‏ وضمير ‏{‏بها‏}‏ عائد إلى ‏{‏مثقال حبة‏}‏‏.‏ واكتسب ضميرهُ التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو ‏{‏حبَة‏.‏

والمثقال‏:‏ ما يماثل شيئاً في الثقل، أي الوزن، فمِثقال الحبة‏:‏ مقدارها‏.‏ والحبَة‏:‏ الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبَابيد كالقطاني‏.‏

والخردل‏:‏ حبوب دقيقة كحَبّ السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخَردل‏.‏ واسمه في علم النبات ‏(‏سينَابيس‏)‏‏.‏ وهو صنفان بري وبستاني‏.‏ وينبت في الهند ومصر وأوروبا‏.‏ وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر‏.‏ وأوراقها كبيرة‏.‏ يُخرج أزهاراً صُفراً منها تتكون بزوره إذْ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير‏.‏ وإذا دُقّ هذا الحب ظهرت منه رائحة معطّرة إذا قُربت من الأنف شماً دَمَعت العينان، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعاً وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلاً ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمُّع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونُه بالماء دَواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجَنب والنُزلات الصدرية‏.‏

وجملة وكفى بنا حاسبين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل‏}‏ ومفعول ‏{‏كفى‏}‏ محذوف دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وكفى الناسَ نحن في حال حسابهم‏.‏

ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر يعدل مثلَنا‏.‏ وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه‏.‏ وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب‏.‏

وضمير الجمع في قوله تعالى ‏{‏حاسبين‏}‏ مراعىً فيه ضمير العظمة من قوله تعالى ‏{‏بنا،‏}‏ والباء مزيدة للتوكيد، وأصل التركيب‏:‏ كَفينا الناسَ، وهذه الباء تدخل بعد فعل ‏(‏كفَى‏)‏ غالباً فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ في ‏[‏سورة النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وتدخل على مفعوله كما في الحديث‏:‏ «كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع»‏.‏ وانتصب ‏{‏حاسبين‏}‏ على الحال أو التمييز لنسبة ‏{‏كفى‏}‏‏.‏ وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرّة منها في قوله تعالى ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ في ‏[‏سورة النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏بل قالوا أضغاث أحلام إلى قوله تعالى‏:‏ فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء، وأنه ما كان بِدْعاً من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذلك من ذكر عناد الأقوام، وثبات الأقدام، والتأييد من الملك العلاّم، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا‏}‏ في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 77‏]‏‏.‏ فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين‏.‏

وفي سَوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضاً لما بُنيت عليه السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 7‏]‏ الآيات، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما أنذركم بالوحي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏‏.‏ واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون‏}‏‏.‏

وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام‏.‏

وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة‏.‏

ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب‏.‏

والفُرقَان‏:‏ ما يُفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل‏.‏ وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم‏.‏ فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناهما الكتاب المستبين‏}‏ في ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 117‏]‏‏.‏

والإخبار عن الفرقان بإسناد إيتائه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يَعْد كونَه إيتاء من الله تعالى ووحياً كما أوتي محمد عليه الصلاة والسلام القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه السلام ما جاء إلا بمثله‏.‏ وفيه تنبيه على جلالة ذلك المُوتَى‏.‏

ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين‏}‏ في ‏[‏سورة غافر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وضياء وذكراً للمتقين‏}‏‏.‏ وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيماً لبعض بل هي صفات متداخلة، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث‏.‏

والضياء‏:‏ النور‏.‏ يستعمل مجازاً في الهدى والعلم، وهو استعمال كثير، وهو المراد هنا وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ في ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والذكر أصله‏:‏ خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه‏.‏ ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله، فقوله تعالى ‏{‏للمتقين‏}‏ يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول، أي الذين اتصفوا بتقوى الله، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم‏.‏ ويجوز أن يكون اللام للعلة، أي ذكر لأجل المتقين، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين‏.‏

ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بياناً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ وهو على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والباء في قوله تعالى ‏{‏بالغيب‏}‏ بمعنى ‏(‏في‏)‏‏.‏ والغيب‏:‏ ما غاب عن عيون الناس، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس‏.‏

والإشفاق‏:‏ رجاء حادث مخوف‏.‏ ومعنى الإشفاق من الساعة‏:‏ الإشفاق من أهوالها، فهم يعدُّون لها عُدَّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة‏.‏

وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏‏.‏ فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهؤلاء هم فرعون وقومه‏.‏

وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه، وهو المقابلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون‏}‏‏.‏

واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته‏.‏ ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته، وهو أيضاً خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فما استطاعوا‏.‏ وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان، وانتفع به مَن آمنوا به وفريق ممن حرموا الإيمان‏.‏ فكان وصفه بأنه مبارك وافياً على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء‏.‏

وزاده تشريفاً بإسناد إنزاله إلى ضمير الجَلالة‏.‏ وجُعل الوحي إلى الرسول إنزالاً لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذْ اعتبر مستقِرّاً في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم‏.‏

وفُرّع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنتم له منكرون‏}‏‏.‏ ولكون إنكارهم صدقه حاصلاً منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسماً دالاً على الاتّصاف في زمن الحال وجَعْل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاءً بحق بلاغة النظم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 57‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المَثَل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذْ أقام للتوحيد هيكلاً بمكة هو الكعبة وبجَبل ‏(‏نابو‏)‏ من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينةٌ تسمى يومئذ ‏(‏لوزا‏)‏ ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة ‏(‏أورشليم‏)‏ في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهداً على بطلان الشرك الذي كان مماثلاً لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره‏.‏ وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدُّهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم‏.‏ وأيضاً فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى‏.‏

وتأكيد الخبر عنه بلام القَسم للوجه الذي بيناه آنفاً في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم أوتي رشداً وهدياً‏.‏

وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه‏.‏

والرشد‏:‏ الهدى والرأي الحق، وضده الغي، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 256‏]‏‏.‏ وإضافة ‏{‏الرشد‏}‏ إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرْشِده‏.‏ وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشداً يليق به؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخَافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به‏.‏ وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه‏.‏

وزاده تنويهاً وتفخيماً تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنا به عالمين‏}‏ أي آتيناه رشداً عظيماً على عِلم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلاً لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رَضيها وأحمدَهَا فاستأهل بها اتخاذه خليلاً‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد اخترناهم على علم على العالمين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً‏.‏ ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة‏.‏

و ‏{‏إذ قال‏}‏ ظرف لفِعل ‏{‏آتينَا‏}‏ أي كان إيتاؤه الرشد حينَ قال لأبيه وقومه‏:‏ ‏{‏ما هذه التماثيل‏}‏ الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه، أي حينَ نزول الوحي إليه بالدَعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بُدئ به من الوحي‏.‏

وقوم إبراهيم كانوا من ‏(‏الكَلدان‏)‏ وكان يسكن بلداً يقال له ‏(‏كوثى‏)‏ بمثلثة في آخره بعدها ألف‏.‏ وهي المسماة في التوراة ‏(‏أور الكلدان‏)‏، ويقال‏:‏ أيضاً إنها ‏(‏أورفة‏)‏ في ‏(‏الرها‏)‏، ثم سكن هو وأبوه وأهله ‏(‏حاران‏)‏ وحاران هي ‏(‏حرّان‏)‏، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه‏:‏ «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك»‏.‏ ومات أبوه في ‏(‏حاران‏)‏ كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من ‏(‏حاران‏)‏ لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان‏.‏ وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صوراً مجسمة‏.‏

والاستفهام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما هذه التماثيل‏}‏ يتسلط على الوصف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التي أنتم لها عاكفون‏}‏ فكأنه قال‏:‏ ما عبادتكم هذه التماثيل‏؟‏‏.‏ ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها‏.‏ وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيداً لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلاً مستعلماً ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم ‏{‏وجدنا آباءنا لها عابدين‏}‏؛ فإن شأن السؤال بكلمة ‏(‏مَا‏)‏ أنّه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه‏.‏

والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية‏.‏ والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي‏.‏

والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي ‏(‏بَعْل‏)‏ وهو أعظمها، وكان مصوغاً من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس، وعبدوا رموزاً للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح‏:‏ ودّاً، وسُواعاً، ويغوثَ، ويعوقَ، ونسْراً، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى‏.‏ وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور ‏(‏إخوان الكلدان‏)‏ صنماً اسمه ‏(‏نَسْروخ‏)‏ وهو نَسْر لا محالة‏.‏

وجعْل العكوففِ مسنداً إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركاً لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنتم لها عاكفون‏}‏ فيه معنى دوامهم على ذلك‏.‏

وضمن ‏{‏عاكفون‏}‏ معنى العبادة، فلذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها‏.‏

وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلَهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق، ولذلك لم يلبث أن أجابهم‏:‏ ‏{‏لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين‏}‏ مؤكداً ذلك بلام القسم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم في ضلال‏}‏ من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية، إيماءٌ إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بَواح لا شبهة فيه، وأكدَ ذلك بوصفه ب ‏{‏مبين‏}‏ فلما ذكروا له آباءَهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة‏.‏

ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالاً، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا ‏{‏أجئتنا بالحق‏}‏، فعبروا عنه ‏{‏بالحق‏}‏ المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ‏.‏ فالمعنى‏:‏ بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه ‏{‏أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين‏}‏‏.‏ والباء للمصاحبة‏.‏ والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحاً، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل استجلاباً لخاطره لما رأوا من قوة حجته‏.‏

وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكناً في اللعب ومعدوداً من الفريق الموصوف باللعب‏.‏

وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم ‏{‏أم أنت من اللاعبين‏}‏ لإبطال أن يكون من اللاعبين، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات، أي وليست تلك التماثيل أرباباً إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى ‏{‏قال أتعبدون ما تنحتون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏ فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكَر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلاّ مربوبة مخلوقة وليست أرباباً ولا خالقة‏.‏ فضمير الجمع في قوله تعالى ‏{‏فطرهنّ‏}‏ ضمير السماوات والأرض لا محالة‏.‏

فكان جواب إبراهيم إبطالاً لقولهم ‏{‏أم أنت من اللاعبين‏}‏ معَ مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق‏.‏ وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا على ذلكم من الشاهدين‏}‏ إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار‏.‏

ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القَسَم، كقول الفرزدق‏:‏

شهد الفرزدق حين يلقى ربه *** أن الوليد أحقُّ بالعذر

ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلناً عزمه على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين‏}‏ مؤكداً عزمه بالقسم، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها‏.‏

والتاء تختص بقسممٍ على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وسمى تكسيره الأصنام كَيْداً على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد‏.‏

والكيْد‏:‏ التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كيدكن عظيم‏}‏ في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادَرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلاً، والمقصود من تغيير المنكر‏:‏ إزالته بقدر الإمكان، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة‏.‏

‏{‏ومدبرين‏}‏ حال مؤكدة لعاملها‏.‏ وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى ‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ في ‏[‏سورة براءة‏:‏ 25‏]‏‏.‏